كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال القرطبي: ومنه قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} [المنافقون: 1] الآية، لأن قوله تعالى: {اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون: 2] يدل على أن المراد بشهادتهم الأيمان هكذا، قال، ولا يتعين عندي ما ذكره من الاستدلال بهذه الآية. والعلم عند الله تعالى.
الثالث: ما قاله ابن العربي: قال والفيصل أنها يمين لا شهادة، أن الزوج يحلف لنفسه في إثبات دعواه وتخليصه من العذاب، وكيف يجوز لأحد أن يدعي في الشريعة أن شاهدًا يشهد لنفسه بما يوجب حكمًا على غيره هذا بعيد في الأصل، معدوم في النظر. اه منه بواسطة نقل القرطبي.
وحاصل استدلاله هذا: أن استقراء الشريعة تامًا، يدل على أنه لم يوجد فيها شهادة إنسان لنفسه بما يوجب حكمًا على غيره، وهو استدلال قوي، لأن المقرر في الأصول أن الاستقراء التام. حجة كما أوضحناه مرارًا، ودعوى الحنفية ومن وافقهم أن الزوج غير متهم لا يسوغ شهادته لنفسه، لإطلاق ظواهر النصوص في عدم قبول شهادة الإنسان لنفسه مطلقًا.
الرابع: ما جاء في بعض روايات حديث اللعان أنه صلى الله عليه وسلم قال لما جاءت الملاعنة بالولد شبيهًا بالذي رميت به «لولا الأيمان لكان لي ولها شأن» عن أحمد وأبي داود، وقد سمى صلى الله عليه وسلم في هذه الرواية شهادات اللعان أيمانًا، وفي إسناد الرواية المذكورة عباد بن منصور، تكلم فيه غير واحد، ويقال: إنه كان قدريًا إلى غير ذلك من أدلتهم.
وأما الذين قالوا: إنها شهادات لا أيمان فاحتجوا: بأن الله سماها شهادات في قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ} [النور: 6] وفي قوله: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} [النور: 6] الآية. وقوله: {وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بالله} [النور: 8] الآية.
واستدلوا أيضًا بحديث أربعة لا لعان بينهم وبين أزواجهم: اليهودية والنصرانية تحت المسلم، والمملوكة تحت الحر، والحرة تحت المملوك اهـ.
قالوا: إنما منع لعان اليهودية والنصرانية والعبد والأمة، لأنهم ليسوا ممن تقبل شهادتهم، ولو كانت شهادات اللعان أيمانًا لصح لعانهم، لأنهم ممن تقبل يمينه، وقال الزيلعي في نصب الراية في الحديث المذكور: قلت: أخرجه ابن ماجه في سننه عن ابن عطاء، عن أبيه عطاء الخراساني، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده المسلم، والمملوكة تحت الحر، والحرة تحت المملوك انتهى، وأخرجه الدارقطني في سننه، عن عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي، عن عمرو بن شعيب به وقال عن جده عبد الله بن عمرو مرفوعًا «أربعة ليس بينهم لعان ليس بين الحر والأمة لعان، وليس بين العبد والحرة لعان، وليس بين المسلم واليهودية لعان، وليس بين المسلم والنصراينة لعان» انتهى. وقال الدارقطني: والوقاصي متروك الحديث، ثم أخرجه عن عثمان بن عطاء الخراساني، عن أبيه، عن عمرو بن شعيب به، قال: وعثمان بن عطاء الخراساني ضعيف الحديث جدًا. وتابعه يزيد بن زريع عن عطاء وهو ضعيف أيضًا. وروي عن الأوزاعي، وابن جريج وهما إمامان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: قوله ولم يرفعاه ثم أخرجه كذلك موقوفًا. ثم أخرجه عن عمار بن مطر، ثنا حماد بن عمرو، عن زيد بن رفيع، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عتاب بن أسيد ألا لعان بين أربع فذكر نحوه قال وعمار بن مطر، وحماد بن عمرو، وزيد بن رفيع ضعفاء انتهى. وقال البيهقي في المعرفة هذا حديث رواه عثمان بن عطاء، ويزيد بن زريع الرملي، عن عطاء الخراساني، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أربعة لا ملاعنة بينهم النصرانية تحت المسلم» إلى آخره قال وعطاء الخراساني معروف بكثرة الغلط، وابنه عثمان وابن زريع ضعيفان، ورواه عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي، عن عمرو بن شعيب به وهو متروك الحديث ضعفه يحيى بن معين، وغيره من الأئمه ورواه عمار بن مطر، عن حماد بن عمرو، عن زيد بن رفيع، عن عمرو بن شعيب، وعمار بن مطر، وحماد بن عمرو، وزيد بن رفيع ضعفاء. وروي عن ابن جريج والأوزاعي، عمرو بن هارون، وليس بالقوي. ورواه يحيى بن أبيه، عن جده إذا كان الراوي عنه ثقة وانضم إليه ما يؤكده، ولم نجد لهذا الحديث طريقًا صحيحًا إلى عمرو. والله أعلم انتهى. كلامه انتهى كلام صاحب نصب الراية.
وقال صاحب الجوهر النقي: إن الحديث المذكور جيد الإسناد، ولو فرضنا جودة إسناده كما ذكره لم يلزم من ذلك أن شهادات اللعان شهادات لا أيمان، لاحتمال كون عدم الملاعنة بين ما ذكر في الحديث لعدم المكافأة.
والأظهر عندنا أنها أيمان أكدت بلفظ الشهادة، للأدلة التي ذكرنا، وهو قول أكثر أهل العلم، والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثالثة: اعلم أنه لا يجوز في اللعان، الاعتماد على إتيان المرأة بالولد أسود، وإن كانت بيضاء، وزوجها أبيض لقصة الرجل الذي ولدت امرأته غلامًا أسود، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم كأنه يعرض بنفي الولد الأسود باللعان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «هل لك من إبل؟» قال: نعم، قال: «ما ألوانها؟» قال: حمر. قال: «هل فيها من أورق؟» قال: إن فيها لورقًا. قال «ومن أين جاءتها الورقة،» قال لعل عرفًا نزعها. قال «وهذا الغلام الأسود لعل عرقًا نزعه» والقصة مشهورة ثابتة في الصحيحين، وقد قدمناها مرارًا، وفيها الدلالة على أن سواد الولد لا يجوز أن يكون مستندًا للرجل في اللعان كما ترى.
المسألة الرابعة: اعلم أن التحقيق: أن من قذف امرأة بالزنى قبل أن يتزوجها ثم تزوجها أنه لم يأت بأربعة شهداء على زناها أنه يجلد حد القذف، ولا يقبل منه اللعان، لأنها وقت القذف أجنبية محصنة داخلة في عموم قوله تعالى: {والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] الآية، والزواج الواقع بعد ذلك لا يغير الحكم الثابت قبله فما يروى عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله، من أنه إن قذفها قبل الزواج، ثم تزوجها بعد القذف أنهما بلتعنان خلاف الظاهر عندنا من نص الآية الكريمة. والعلم عند الله تعالى.
المسألة الخامسة: اعلم أن التحقيق أن الزوج إن قذف زوجته وأمها بالزنا، ولم يأت بالبينة أنه يحد للأم حد القذف، لأنه قذفها بالزنى وهي محصنة غير زوجة، فهي داخلة في عموم قوله تعالى: {والذين يَرْمُونَ المحصنات} [النور: 4] الآية. وأما البنت فإنه يلاعنها، لأنه قذفها، وهي زوجة له، فتدخل في عموم قوله تعالى: {والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله إِنَّهُ لَمِنَ الصادقين} [النور: 6] إلى آخر آيات اللعان.
وبما ذكرنا تعلم أن قول بعض الأئمة: إنه إن حد للأم سقط حد البنت وإن لاعن البنت لم يسقط حد الأم، أنه خلاف التحقيق الذي دلت عليه آيات القرآن، وقد قال ابن العربي في القول المذكور: وهذا باطل جدًا، فإنه خصص عموم الآية في البنت وهي زوجة بحد الأم من غير أثر ولا أصل قاسه عليه اهـ. وهو ظاهر.
المسألة السادسة: اعلم أن الذي يظهر لنا أنه الصواب أن من قذف زوجته بالزنى، ثم زنت قبل لعانه لها أنه لا حد عليه ولا لعان، لأنه تبين بزناها قبل اللعان انها غير محصنة، ولا لعان في قذف غير المحصنة، كما قدمنا أنه إن قذف أجنبية بالزنى، ثم زنت قبل أن يقام عليه الحد أن الظاهر لنا سقوط الحد، لأنه قد تبين بزناها أنها غير محصنة قبل استيفاء الحد، فلا يحد القذف من ظهر أنها غير محصنة، وذكرنا الخلاف في ذلك.
وحجة من قال: يحد إن كانت أجنبية ويلاعن إن كانت زوجة أن الحد واللعان قد وجبا وقت القذف فلا يسقطان بالزنى الطارئ، وبيَّنَّا أن الأظهر سقوط الحد واللعان، لتبين عدم الإحصان قبل الحد وقبل اللعان والعلم عند الله تعالى.
المسألة السابعة: اعلم أن من رمى زوجته الكبيرة التي لا تحمل لكبر سنها أنهما يلتعنان هو لدفع الحد، وهي لدرء العذاب: وأما إن رمى زوجته الصغيرة التي لا تحمل لصغرها، فقد قدمنا خلاف العلماء هل يلزمه حد القذف إن كانت صغيرة تطيق الوطء، ولم تبلغ؟ فعلى أنه يلزمه الحد يجب عليه أن يلتعن لدفع الحد، وأما على القول: بأنه لا حد في قذف الصغيرة مطلقًا فلا لعان عليه في قذفها، وقد قذفها الأظهر عندنا في ذلك. والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثامنة: اعلم أنه إن نفى حمل زوجته فقد اختلف أهل العلم، هل له أن يلاعنها، وهي حامل لنفي ما في بطنها عنه، أو لا يجوز له اللعان حتى تضع الولد؟ فذهب جمهور أهل العلم: إلى أنه يلاعنها وهي حامل وينتفي عنه حملها باللعان. وقال ابن حجر في الفتح بعد أن ساق أحاديث اللعان: وفيه أن الحامل تلاعن قبل الوضع لقوله في الحديث: «انظروا فإن جاءت» الخ. كما تقدم في حديث سهل، وفي حديث ابن عباس، وعند مسلم من حديث ابن مسعود، فجاء يعني الرجل هو وامرأته فتلاعنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لعلها أن تجيء به أسود جعدًا فجاءت به أسود جعدًا» وبه قال الجمهور، خلافًا لمن أبى ذلك من أهل الرأي معتلًا بأن الحمل لا يعلم، لأنه قد يكون نفخة.
وحجة الجمهور: أن اللعان لدفع حد القذف عن الرجل، ودفع الحد الرجم عن المرأة، فلا فرق بين أن تكون حاملًا أو حائلًا، ولذلك شرع اللعان مع الآيسة.
وقد اختلف في الصغيرة، والجمهور: على أن الرجل إذا قذفها فله أن يلتعن لدفع حد القذف عنه، دونها انتهى محل الغرض من كلام ابن حجر.
وقد قدمنا أن اللعان قاذف الصغيرة مبني على أنه يحد لقذفها، وقد قدمنا كلام أهل العلم واختلافهم في حد قاذف الصغيرة المطيقة للوطء، وذكرنا ما يظهر لنا رجحانه من ذلك.
وأما الذين قالوا: لا تلاعن الحامل حتى تضع ولدها، فقد استدلوا بأمرين:
الأول: أن الحمل لا يتيقن وجوده قبل الوضع، لأنه قد يكون انتفاخًا، وقد يكون ريحًا.
والثاني: هو ما جاء في بعض الروايات في أحاديث اللعان، مما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم أخر لعان الحامل حتى وضعت، ففي البخاري من حديث ابن عباس: ما نصه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم بين فوضعت شبيهًا بالرجل الذي ذكر زوجها أنه وجده عندها فلاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما» الحديث، قالوا فترتيبه فلاعن بالفاء على قوله: فوضعت شبيهًا بالرجل إلخ دليل على أن اللعان كان بعد الوضع كما هو مدلول الفاء، وأجيب من قبل الجمهور عن هذه الرواية بما ذكر ابن حجر في فتح الباري، فإنه قال في كلامه على الرواية المذكورة: ظاهره أن الملاعنة تأخرت إلى وضع المرأة لكن أوضحت أن رواية ابن عباس هذه هي في القصة في حديث سهل بن سعد، وتقدم قبل من حديث سهل أن اللعان وقع بينهما قبل أن تضع، فعلى هذا تكون الفاء في قوله: فلاعن معقبة لقوله فأخبره بالذي وجد عليه امرأته، وهذه الجملة التي ذكر ابن حجر أن جملة فلاعن معطوفة عليها مذكورة في حديث ابن عباس الذي ذكرنا محل الغرض منه.
والذي يظهر لنا أن الحامل تلاعن قبل الوضع لتصريح الأحاديث الصحيحة بذلك. ولما ذكره ابن حجر في كلامه الذي نقلناه آنفًا. والعلم عند الله تعالى.
المسألة التاسعة: اعلم أن أظهر أقوال أهل العلم عندي فيمن طلق امرأته ثم قذفها بعد الطلاق، أنه إن كان قذفه لها بنفي حمل لم يعلم به إلا الطلاق، أنه يلاعنها لنفي ذلك الحمل عنه، وإن كانت بائنًا، وأنه إن قذفها بالزنى بعد الطلاق حد، ولم يلاعن لأن تأخيره القذف واللعان إلى زمن بعد الطلاق دليل على أنه قاذف والأظهر ولو كان الطلاق رجعيًا، ولم تنقض العدة، وإن كانت الرجعية في حكم الزوجة لأن طلاقه إياها قبل القذف دليل على أنه لا يريد اللعان ويجلد، وهو قول ابن عباس: وقيل: يلاعن الرجعية قبل انقضاء العدة، لأنها في حكم الزوجة، وهو مذهب أحمد المشهور ورواية أبي طالب عنه، وبه قال ابن عمر، وجابر، وزيد، والنخعي، والزهري، والشافعي، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، وأصحاب الرأي وله وجه من النظر والله أعلم.
وقال القرطبي: لا ملاعنة بين الرجل وزوجته بعد انقضاء العدة إلا في مسألة واحدة، وهي أن يكون الرجل غائبًا فتأتى امرأته بولد في مغيبه. وهو لا يعلم فيطلقها فتنقضي عدتها ثم يقدم فينفيه، فله أن يلاعنها هنا بعد العدة. وكذلك لو قدم بعد وفاتها ونفى الولد لاعن لنفسه وهي ميتة بعد مدة من العدة، ويرثها لأنها ماتت قبل وقوع الفرقة بينهما اهـ. منه ولا نص فيه وله وجه من النظر.
وقال القرطبي أيضًا: إذا قذفها بعد الطلاق نظرت، فإن كان هناك نسب يريد أن ينفيه، أو حمل يريد أن يتبرأ منه لاعن، وإلا لم يلاعن. وقال عثمان النبي: لا يلاعن بحال. وقال أبو حنيفة: لا يلاعن في الوجهين، لأنها ليست بزوجة، وهذا ينتقض عليه بالقذف قبل الزوجية كما ذكرناه آنفًا بل هذا أولى، لأن النكاح قد تقدم، وهو يريد الانتفاء من النسب، وتبرئته من ولد يلحق به، فلابد من اللعان، وإذا لم يكن هناك حمل يرجى، ولا نسب يخاف تعلقه لم يكن للعان فائدة فلم يحكم به، وكان قذفًا مطلقًا داخلًا تحت عموم قوله تعالى: {والذين يَرْمُونَ المحصنات} [النور: 4] فوجب عليه الحد، وبطل ما قاله التبي لظهوره فساده انتهى كلام القرطبي.